من البلد
سوريا ما زالت موجودة في حساب الصراع العربي الإسرائيلي. ذلك ما لفت انتباه العالم، بسبب القصف الاسرائيلي على مطار دمشق في 26 تشرين الثاني الماضي. مع أن من بين ما كشفت عنه الحرب الاسرائيلية على غزة هو، أن النظام السوري صار خارج المعادلة، بدليل أنه لم يصدر عنه أي موقف. لا تضامن مع غزة، ولا إدانة ولا تنديد بالحرب. صمت لا شبيه له. يفسره البعض على أنه نابع من تشفي رئيس النظام بشار الأسد بحركة حماس، التي سبق أن هاجمها في حديث تلفزيوني منذ أشهر. تحدث في حينه عن الحركة بقسوة، واعتبر أنها خذلته، لأنها أيدت الثورة السورية. ومع أن قيادة الحركة حاولت أن تفتح صفحة جديدة معه استجابة لوساطة إيرانية، وزار وفد منها دمشق، وقابله، غير أنه تبين بأن ما يضمره ضدها، يصعب أن تمحوه محاولات طهران للتقريب بين الطرفين.اسرائيل هي التي ذكّرت العالم بأن دمشق، ما زالت في قلب الصراع. أعادتها، ولو على سبيل خبر عاجل، بعدما أخرجها النظام من المعادلة. باتت سوريا بعيدة عن حرب غزة على نحو يثير الرثاء، وبصورة لا تليق بدولة كانت على الدوام قلب الحدث في الشرق الأوسط. حتى في أقسى الأوقات، وأقصى حالات الانهيار والتراجع، لم تصل دمشق إلى ما هي عليه من فقدان للوزن والتأثير والدور. والمفارقة أن هذا الوضع المزري ليس بفعل قوى خارجية، بل باختيار من يجلس على رأس الدولة. الذي يكتفى من سوريا بكرسي في قبو بقصر المهاجرين، ولقب رمزي، بلا صلاحيات، بعدما أصبح قرار سوريا مقسوماً بين إيران وروسيا.صحيح أن اسرائيل هي التي تلفت الأنظار، بين حين وآخر، إلى دور سوريا في الصراع، غير أن ذلك يحصل من باب المناوشات مع إيران، التي حولت أجزاء من سوريا إلى قواعد عسكرية، تنتشر فيها مليشيات شيعية تابعة لها من دول عديدة، حزب الله اللبناني، وفصائل عراقية، وأفغانية وباكستانية وحوثية يمنية، تحت إشراف ضباط من الحرس الثوري الإيراني. ولم يعد سراً أن إيران أقامت معسكرات تدريب وثكنات عسكرية ومعامل أسلحة في أكثر من منطقة، في سوريا، من دير الزور، إلى الساحل، مروراً بحلب، وحتى محيط دمشق ومنطقة الجنوب، وجبهة الجولان. ومن المعروف أيضاً، أن ذلك كله خارج عن كل رقابة أو تنسيق مع النظام السوري، وحتى روسيا، التي أقامت بدورها قواعد، وتنشر قوات رسمية، وأخرى من مليشيا فاغنر.يتكرر قصف اسرائيل لمطارَي حلب ودمشق، ويُستثني مطار اللاذقية. وهذا أمر يدخل في باب قواعد الاشتباك بين تل أبيب وموسكو، سارية المفعول منذ سنوات على الأراضي السورية. وجرى النص في التفاهمات الثنائية، التي تجددت عدة مرات، على أن مطار اللاذقية تحت إشراف القوات الروسية. وبالتالي، يحظر استخدامه من قبل إيران على غرار مطاري حلب ودمشق. وقد منعت القوات الروسية، في الآونة الأخيرة، طائرات الحجاج الإيرانيين من الهبوط في مطار اللاذقية، بعدما أخرجت اسرائيل مطاري حلب ودمشق عن الخدمة نهائياً.تستخدم إيران الأراضي السورية في مناوشاتها مع اسرائيل والولايات المتحدة، كما هو الحال في العراق ولبنان واليمن. وقد تحولت هذه البلدان إلى جبهات عسكرية متقدمة للدفاع عن إيران من جهة، ومن جهة أخرى، تحولت إلى أوراق ضغط عسكرية. وتلعب طهران بهذه البلدان كأوراق من أجل تحسين شروطها في مفاوضاتها مع أميركا، بخصوص الملف النووي، ودورها في أمن الخليج والتجارة الدولية. وهذا يعني أن إيران تبعد أي مواجهة عسكرية محتملة عن أراضيها، إلى ساحات هذه البلدان للحروب بالوكالة، وتتصرف على أنها قوة عظمى، قادرة على تحريك هذه المنطقة ضد المصالح الأميركية واسرائيل. وأخر ما يهمها مصالح شعوب هذه المنطقة وبلدانها، أو استقرار دولها، بدليل أن مليشياتها في لبنان والعراق واليمن باتت دولة داخل الدولة، تمنعها من اتخاذ سياسات حسب مصالح البلد، بل بما يناسب وينسجم مع مصالح إيران في الدرجة الأولى.ما يحصل في سوريا أكثر من خطير، يتجاوز ارتهان الأسد إلى إيران، مقابل الحفاظ عليه والدفاع عن نظامه. ووصل الأمر إلى مصادرة سوريا، ومنعها من استعادة قرارها المستقل. ورغم ما بلغته الدولة من ضعف، لا يمكن تبرير تسليم مقاليد سياسة البلد إلى طرف أجنبي، تحت أي ظرف كان. ومن المؤسف أن هذا الهوان، لا يحرك من يسمّون أنفسهم بمعارضة النظام.غزة أقرب إلى دمشق، ليس في الجغرافيا فقط، بل في أواصر القرابة والدم والتاريخ، ولا تحتاج الوسيط الإيراني، الذي لا هدف له سوى ترويج بضاعته، ولو على حساب دماء الفلسطينيين، وخراب سوريا ولبنان واليمن والعراق. ومن حسن الحظ أن أهل غزة يدركون بأن مواقف رئيس النظام لا تمثل السوريين.لا يتصرف الأسد سياسياً، ولا عاطفياً، ولا إنسانياً. المسألة بالنسبة له ذات بُعد شخصي. يقيس موقفه على قرب العالم أو بعده منه. صار محدوداً جداً، كحال أسير تنازل عن كرامته، كي يبقى على قيد الحياة.