"موقف" السادات
في ذاكرتي المتهالكة أنني أُجبِرتُ في يفاعتي على الخروج في مظاهرة "حاشدة" تم تأطيرها من قبل صِبية الأمن للتنديد بزيارة محمد أنور السادات إلى القدس المحتلة معترفًا حينها بشرعية اغتصابها من قبل الإسرائيليين على الرغم من تسجيله انتصارًا نسبيًا في حرب تشرين الأول من عام 1973 والتي شاركته فيها سوريا بتجديد خسارتها الهائلة في نكسة 1967، وذلك بعد أن بانت إشارات نصر خجولة في أيامها الأولى. وفي ذاكرتي الانتقائية بإرادتي، لم تُسجّل إلا الهتافات البذيئة التي لقنوها لنا والتي لا علاقة لها بوعي سياسي ولا بموقف وطني. ولولا الحياء لكررتها هنا للتاريخ ليس إلا. وبالمقابل، فقد سجّلت هذه الذاكرة الملعونة كيفية الهروب من هذه "المظاهرة العفوية" التي أُجبرنا على الخروج فيها من مدارسنا. فقد تمكنت مع أصدقاء من الانسحاب بهدوء وتخفٍ حريّ بأبطال أفلام التجسّس للدخول إلى صالة سينما قذرة تعرض فيلمًا سخيفًا لمطرب لبناني وممثلة سورية كان لباسها البحري هو أهم ما أُبرز في مدخل الصالة. وما زالت مشاهد هذا الفيلم محفورة في ذاكرتي ليس بسبب لباس السباحة بل كوني استمتعت أيما استمتاع بفيلم سخيفٍ من الدرجة العاشرة لكنه أنقذني من الحشد الكريم الذي أجبرتني إدارة المدرسة على الخوض في غماره.
لماذا عادت بي الذاكرة إلى هذا الخطب الجلل اليوم؟
منذ أيام، وفي لقاء حواري حول الحرب الجارية بوحشية مستمرّة على غزّة مع جمهورٍ فرنسيٍ كبير، متعاطف ومتضامن في جلّه مع الحق الفلسطيني المشروع، وجّه أحدهم إلى زميلة مشاركة سؤالًا بريئًا ـ وفرنسيًا بامتياز ـ مستفهمًا عن غياب رجال سلامٍ في هذه المرحلة التاريخية المفعمة بالحروب، كأنور السادات وإسحاق رابين، واللذين اغتيلا من قبل "متطرفين أعداء السلام" كما جاء في السؤال. وكان رد المحاضِرة، وبعد أن شرحت ظروف الحالة المستجدّة، بأن راجعت موقف السادات وعلى أنه كان فقط رجل "سلام" ولم يتحمّل مسؤولية كبرى، من خلال خطوته الفردية، والتي يعتبرها الكثير من أهل القضية المركزية بأنها "متخاذلة وخيانية"، وأنها من أحد أهم أسباب التدهور الذي تلاها في مجمل الأوضاع المحلية والإقليمية. ومن دون أن تخوض في التفاصيل، اكتفت في الختام بالقول بأن مقتله جاء في هذا الإطار. وقد أطاح هذا التعبير بهدوء السائل الذي عبّر عن استهجانه لما فهمه تبريرًا لاغتياله.
يتساءل المرء هنا عن صورة رجل السلام في ذهنية الآخر الذي يمكن ان يكون عربيًا أو أعجميًا. فهل هو الذي يتراجع عن حقوقه وحقوق إخوانه هو رجل سلام؟ وهل من يتخلّى عن القضية المركزية عالمًا بأن توقيعه سيؤدي بها إلى مآلات مظلمة كونه يُمثّل ـ ولو نظريًا ـ قوة إقليمية لا يستهان بها ويحسب لها"999 حساب"، هو رجل سلام؟ وهل من وعد شعبه المقموع بالمن والسلوى إن هو بصم على توقيعه بالدم ولم ينل هذا الشعب سوى مزيد من القمع ومن الفساد في ظل انفتاح اقتصادي وثقافي فوضوي هو رجل سلام؟ وهل من دعم متطرفي الجامعات ضد تقدمييها ليخلو له جو الحكم ممن يمكن له ان يعارضه هو رجل سلام؟ وهل من يُحقّق السلام من دون أن يحصل على مقابل حقيقي سوى منطقة منزوعة السلاح وعلاقات دبلوماسية تمنح عدوًا لم يكل ويمل بالاستحواذ على أراضي الآخر، سفارة في العمارة، وتطبيع سياحي لا يفيد إلا طرفًا دون الآخر وتزايدًا في تطرفٍ كان هو من أحد مسؤولي التأسيس له قبل أن يُقتل على يده، هل هو رجل سلام؟
من المؤسف أن تكون الإجابة هي نعم، ولكنها كذلك في نظر الانسان البسيط الطيب الباحث عن نهاية العنف من أي طرف صدر، وخصوصًا إن كان داعية السلام هذا لا يعرف الكثير عن خبايا الأمور التي تزدهر في شرقنا الأوسط الموبوء بالاحتلالات وبالمستبدين.
فالساسة الإسرائيليون، على تنوّع اتجاهاتهم، مغتبطون بما لاقوه من حفاوة وترحيب من قبل قادة عرب بحثوا دائمًا عن ترسيخ أسس حكمهم رغمًا عن أنف شعوبهم ولو على حساب البيع والشراء بالقضية الفلسطينية المركزية. أو أنهم ادعوا جنوحهم للسلم فأغرقوا سفينتهم في رمال الاستسلام المتحركة. وهناك من قايض حق شعب بأكمله بحفنة من رمال ملّوثة واعترافات مبللة بحقوق جزئية لا تُغني ولا تثمر إلا من يبحث عن رضا القطب الأميركي الأكبر. وهناك من له لا ناقة ولا جمل في القضية وجنح لتطبيعٍ ما هو إلا تحالف مع من قتل الآلاف وما زال من شعب عربي "شقيق". مقابل صانعي "السلام" المستجدين صار السادات أهونهم رغم هوانه وضآلة ما حصل عليه مقابل جسامة ما تنازل عنه.
مرت منذ فترة قصيرة ذكرى 19 تشرين الثاني / نوفمبر وهو يوم هذه الزيارة "التاريخية" سنة 1977. ويُحكى بأن مواطنًا بريئًا سؤل حينها من قبل الإعلام السوري "الحر" عن رأيه بموقف السادات، فأجاب بأنه لا يستخدمه كثيرًا لسكنه في منطقة لا تُخدّمها الحافلة التي تمرُّ به.
كلمات دلالية: رجل سلام قبل هذا السادات السلام بأن وهل |
|
|