لا خدمات لـ"ميرسك" في سوريا..ماذا يعني ذلك؟
مع مطلع الشهر الجاري، سيكون عملاق الشحن، "ميرسك"، قد خرج تماماً، من خدمات الشحن البحري من وإلى سوريا، بعد بيانه الصادر قبل نحو عشرة أيام، حينما أعلن قراره هذا، لتكون "ميرسك نارمادا"، آخر السفن التابعة له، التي تصل إلى الشواطئ السورية. وهو ما ستكون له انعكاساته السلبية على معيشة السوريين.
ولا يأتي أثر قرار شركة الشحن الدنماركية، من حجم دورها في خدمات الشحن من وإلى سوريا. فهذا الدور تضاءل وأصبح محدوداً خلال السنوات التي تلت العام 2011، حتى توقف تماماً. لكن "ميرسك"، تعزز بقرارها هذا، قناعة المُدبِرين عن الاستثمار في سوريا، أو التعامل التجاري معها، حتى لو على نطاق محدود، بوصفها شركة عالمية أخرى، تبتعد عن كل ما يتعلق بسوريا.
وفيما ركّزت التقارير التي تداولت بيان الشركة، على تأثير العقوبات، بوصفه العامل الحاسم في هذا القرار، أشار بيان الشركة، إلى أن الشحن البحري من وإلى سوريا، أصبح "أكثر صعوبة حتى من الناحية اللوجستية في الآونة الأخيرة". ولم توضح الشركة ما قصدته بازدياد الصعوبات من "الناحية اللوجستية".
ولا نشكك هنا بتأثير العقوبات الغربية على النظام، في دفع "ميرسك"، كغيرها من الشركات الدولية، إلى تقليص تعاملاتها مع سوريا، ووقفها تماماً، في حالات كثيرة. لكن الإشارة إلى صعوبات "لوجستية"، مع عدم وجود مستجدات على صعيد العقوبات، يجعل تحميل قرار "ميرسك" لهذا العامل، في غير محله.
مركز "جسور" للدراسات، وفي تحليل نشره قبل أيام، حمّل النظام السوري مسؤولية قرار "ميرسك" وسواها من الشركات الدولية، بالانسحاب من السوق السورية، جراء إصراره على توريط الجميع في تعاملات مباشرة معه، "مما يجعل التُّجار والمؤسسات المحلية والدولية أمام خيار ترك السوق أو التورُّط معه". فهل هذا تجنٍ على النظام؟
قد نجد الجواب في تقرير نشرته جريدة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم، في كانون الثاني/يناير 2023، تحدث عن مشكلات قطاع الشحن البحري في سوريا. ويتحسّر التقرير على غياب نشاط السوريين عن قطاع الشحن البحري المحلي، رغم تواجدهم المثير للدهشة، في هذا القطاع، عالمياً. إذ من أصل 55 ألف سفينة شحن في العالم، يملك السوريون 1000 سفينة، وفق إحصائية لأسطول الشحن العالمي، صدرت نهاية العام المنصرم. ويعترف التقرير أن العقوبات باتت "شماعة"، وأن هناك قوانين وتشريعات طاردة للمستثمرين في هذا المجال، إلى جانب "بيروقراطية مقيتة" و"عقلية قاصرة تنقصها الخبرة" أو "أنها تسعى للاستنفاع والمحاصصة وقطع الأرزاق"، وإلا فإن "الباب الذي يتسع لجمل" سيكون بالانتظار، وفق التعبيرات الحرفية الواردة في الجريدة.
وأشار تقرير "البعث" ذاته، إلى جانب من الصعوبات "اللوجستية"، التي ألمح إليها بيان "ميرسك". إذ تحدث عن ضعف الآليات المستخدمة في التفريغ والشحن بميناء طرطوس، وعدم تحديثها من جانب الشركة الروسية المشغلة، والتي منحها النظام في عام 2019، حق استثمار الميناء، لـ 49 عاماً. كما وأشار التقرير إلى مشاكل التزود بالفيول والمازوت للسفن، بسبب أزمات شح الوقود في سوريا. إلى جانب مشكلات الصيانة أيضاً.
وفيما كانت الإشارة إلى عامل الفساد، متحفّظة في تقرير "البعث"، نجد إشارة أكثر مباشرةً، في تقرير نشرته جريدة "الوطن" الموالية للنظام، قبل ذلك ببضعة أشهر، نقلت فيه عن أحد مديري شركات الشحن في سوريا، تحذيره للزبائن بعدم إرسال بضائع جديدة أو ثمينة، إلى سوريا، عن طريق الشحن، والاكتفاء بالبضائع المستعملة وغير المغرية، جراء تكرار حالات نبش البضائع ونقص محتوياتها، خلال مرور تلك البضائع عبر المنافذ الحدودية للبلاد. وهي إشارة لا تقبل الجدل، لتورّط الجمارك السورية في ذلك.
ما سبق من عوامل يُضاف إليه الشبهة التي باتت لصيقة بنشاط الشحن البحري من الموانئ السورية، بوصفه وسيلة لتهريب المخدرات والفوسفات السوري، إلى أوروبا ذاتها. وهي شبهة تفاعلت في السنة الأخيرة، حتى باتت منفّرة لأي شركة دولية حريصة على سمعتها ونشاطاتها في الأسواق الغربية.
وهكذا نستنتج أن إصرار النظام على ربط أي نشاط اقتصادي بالمحسوبين عليه، إلى جانب الفساد ونقص الوقود وضعف البنية التحتية، والتهريب، هي العوامل التي جعلت "ميرسك" تخرج نهائياً من السوق السورية. وهي التي ستجعل الشركات الدولية الأخرى، المتبقية في السوق السورية، تحذو حذوها. ومع استمرار هذه العوامل، فحتى مجموعة CMA CGM الفرنسية، -ثالث أكبر شركة في العالم بمجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، والتي يقودها ورثة رجل الأعمال الفرنسي اللبناني، من أصول سوريّة، الراحل جاك سعادة-، والتي ناضلت كثيراً للبقاء في ميناء اللاذقية، ستواجه صعوبات أكبر في الاستمرار هناك، في الفترة القادمة.
وهكذا، ستتعرض سلاسل توريد البضائع -المختنقة أساساً- إلى سوريا، للمزيد من التقلّص والتضييق. ومع ارتفاع تكاليف الإنتاج محلياً، ومعضلة شح الوقود المزمنة، وحصيلة ذلك المتمثلة بارتهان السوريين بصورة كبيرة للاستيراد، ستزداد الكلفة على جيب السوريّ، وستصبح أزمات فقدان البضائع الدورية، لازمة، تزداد تفاقماً، في الفترة القادمة. كما وسيزداد اتكال السوق السورية على توريد البضائع من ميناء العقبة الأردني، وبالتالي سيتحوّل معبر نصيب مع الأردن، إلى شريان حياة لهذه السوق، أكثر فأكثر. مما سيرهن معيشة السوريين لتقلّبات علاقات النظام الحاكم، ومناكفاته، مع جاره الجنوبي.
كلمات دلالية: الشحن سوريا ميرسك السورية النظام السوق البحري هذا |
|
|