بين غزة وما قبلها
لا اختلاف بين أشكال الضحايا في غزة عن أولئك الذين عايشناهم، أو رأينا صورهم في بلداننا الأخرى. نفس الدم وتقطيع الأوصال، والحزن على الراحلين، وأهوال مشاهد القصف، والذعر في الوجوه، أو متاهة النازحين، ونحيب الأحياء العالقين تحت الأنقاض، وفوضى المشافي التي ينقصها كل شئ باستثناء المزيد والمزيد من المصابين.
هذا التناظر، هو تجسيد لمأساتنا المشتركة، التي يبدو أنها تتعاقب بمتوالية مستمرة، وأحيانا متصلة، وكأنها مترابطة أو بينها نمط من تعاقب مقصود، ومتفق عليه، برغم ما يبدو من العداوة بين الفاعلين، والاختلاف بين أجنداتهم وما حفروه من خنادق في أرضنا، تكدس فيها زحام من أشخاص يتوزعون ما بين النفعي الوصولي والمؤدلج العقائدي والعميل الجاسوس أو المرتزق الأجير، وكانت تتداخل أحيانا مع خنادق الثوار الوطنيين، ووسط هذا الخلط الغريب، ظلت القنابل تتركز بانتظام على المدنيين الأبرياء، ليسقط عشرات الآلاف منهم، من دون أن نرى حتى اليوم أحد من القتلة يتعرض لمحاكمة أو يخضع للائحة اتهام، بل أن بعض المجرمين حصل من بعض (المتخندقين) على أوسمة وزعامات دينية أو وطنية.
تسبب هذا النزيف بدمار جيل أو أكثر من شعوبنا، ليس بالإبادة فقط، بل بالتدمير المعنوي والتنشئة المشوهة، وبجعلنا عالقين في دائرة البحث عن النجاة والتزاحم على المناطق الآمنة والحاجات الأساسية والحد الأدنى من العيش الآدمي. يحدث هذا في غزة اليوم، وحدث وما زال في سوريا وفي اليمن والعراق، ولا نعلم أي المحطات ستكون التالية، لكن في النهاية لا يمكن فصل ضحايا الاستبداد عن ضحايا الاحتلال، فجميعهم يواجهون المصير ذاته، حتى لو كانت بعض العيون المكلومة لا ترى إلا بشكل انتقائي قد تكون له أهداف، أو أن يكون محض غياب للبصيرة وللملامح الإنسانية التي لا تستطيع استيعاب حقيقة أن انتشار ثقافة القتل المجاني غير المحدود في منطقتنا قد جعل من الحرب في غزة بكل عنفها ودمويتها، سياقا نمطيا خاضعا للمقارنات مع سواها من حروب دموية اخرى ضد الشعوب، وليس للرفض الشامل الذي يوجب المساواة بين الضحايا كما يقتضي وضع جميع القتلة في سلة واحدة لا تقبل القسمة تحت أي معيار أو سبب، بما في ذلك معيار الأولويات أو الفصل بين الملفات.
ومما لايراه البعض، أو يرفضون الاعتراف به، أن تهجير أهل غزة، كهدف للحرب، أو نتيجة لها، هو سياق متماثل تماما مع حملات التغيير الديمغرافي والتلاعب بالخرائط السكانية التي حصلت من قبل في مناطق حروب الاستبداد المدعوم بالميليشيات الايرانية، وكأن الامر يتعلق بدليل واحد يستخدمه الجميع ضدنا، أو كأن حملات التهجير القسري التي مورست من قبل في سوريا وشملت نحو نصف الشعب السوري، قد خلقت الإلهام بفكرة تهجير أهل غزة، كحل جذري لهواجس أمنية أو أهداف اقتصادية، لا سيما وأن ماجرى في سوريا لم يواجه رفضا دوليا فاعلا، وظل في نطاق الظواهر الصوتية معدومة القيمة والأهمية.
الدم في غزة اذن، هو نتيجة للدماء التي فشل الجميع في وقف هدرها من قبل، والجرائم التي تجري هي نتيجة حتمية لثقافة الإفلات من العقاب التي صارت نمطا سائدا ومستمرا، ولن يقدر لهذا المسلسل العنيف أن يتوقف ضد أهلنا هناك، ما دامت فكرة الإجرام ومعاييره قد صارت خاضعة لأهواء ومصالح وآراء، وصلت حد مكافأة القتلة وتحويلهم إلى محررين ومقاومين، بل وجعل كل من يطالب بعدالة المساواة بين الضحايا وكذلك عدم الفصل بين المجرمين، متهما ومركونا في خانة (الخصوم) بل وأكثر من ذلك.
هؤلاء المتخندقون في غرفهم الآمنة بعيدا عن الميدان، المولعون بالشعارات والتزييف والتنظير الفارغ من العدالة والانسانية والرؤيا، القائلون بفصل الملفات والفرق بين عدو داخلي وعدو خارجي هم جزء من مسؤولية الدم في غزة، وإن ادعوا عكس ذلك، ولسوء الحظ، فقد لا تطالهم العدالة كما اخطأت المجرمين الذي حولوهم لمقاومين، ومن يدري، فقد يحظى هؤلاء أيضا بألقاب البطولة المزيفة، ولو إلى حين.
كلمات دلالية: غزة قد هذا المجرمين سوريا نتيجة الدم قبل |
|
|